الكويت- قلب الخليج النابض وذاكرة الفن والتراث

يا جارتي، إن بحاري المقدام سيعود ظافراً، يا جارتي، سيعود من أتون المخاطر والأهوال، بهذه الأنشودة المفعمة بالحيوية والبهجة، سطرت الفنانة الكويتية الخالدة، «سناء الخزرج»، أروع اللحظات في احتفالات العيد الوطني الكويتي، تلك الاحتفالات البهيجة التي كانت تُقام بانتظام، قبل أن تخبو جذوتها مع مر السنين، تلك الاحتفالات التي كانت تجسد الشخصية الكويتية الأصيلة، الصياد الماهر، والتاجر الفذ، والغواص الذي يكتشف اللؤلؤ، والرحالة الذي يعبر البحار بحثاً عن حياة أرغد وغدٍ مشرق.
لا يغيب عن الأذهان حكايات «الخزرج» المؤثرة، عن البحارة العائدين من رحلات الغوص والصيد المضنية، وكيف كان يتم استقبالهم بالترحاب والعطور الفواحة والأشواق المتدفقة، وبالماء المعطر واللبان والبخور الزكية، وكأنهم أقمار تضيء الدجى ببهائها، هذا هو جوهر الإنسان الكويتي، الذي حمل معه عبق الفن على متن السفن الشراعية، قاطعاً المسافات الشاسعة بالأهازيج الشجية، ومبتكراً ألحاناً فريدة من نوعها، تعتبر هي الأصل والجذور لكل الألوان الغنائية الخليجية، وتحمل في طياتها مرارة الغربة عن الوطن، وعناء البحر وأهواله، والشوق الجارف للأهل والأحبة.
الإنسان الكويتي لم يتبدل ولن يعرف التبدل أبداً، مهما قست الظروف وصعاب الحياة في طريقه، أو تعثرت به سنوات الظلام والتعصب التي حاول زرعها المتسللون، فهو يحمل إرثاً عميقاً وثقافة راسخة، تضرب بجذورها في أعماق الخليج العربي، تماماً كالكنوز الدفينة التي غذت ولا تزال تلهم يومه وأمسه بالحياة، حياة استنزفت طاقات الأجداد بحثاً عما يعينهم عليها، ويكفيهم شرور البحر وتقلباته.
لم يكن الأوبريت الفخم الذي أقامته دولة الكويت تكريماً لضيفها الكريم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله، هو الأمر المثير للإعجاب والدهشة فحسب، بل الكيفية التي تم بها دمج الثقافة الكويتية العريقة مع التراث السعودي الأصيل، دون أي تعارض أو تنافر، بل بتناغم وانسجام تامين، وكأنهما ينهلان من منهل واحد، ويا لها من قدرة فائقة للكويت، التي استطاعت أن تستعيد وجهها الحضاري المشرق الذي طمسه الإهمال أو كاد.
الكويت تحلق دوماً بجناحين قويين، جناح ممتد كأشجار النخيل الباسقة في أرض العراق ومياه دجلة الخالدة، وجناح آخر متجذر في واحات نجد الشامخة وقبائلها العربية الأصيلة وأسرها الكريمة.
أكاد أجزم يقيناً أن دار آل الصباح الكرام هي قلب الخليج النابض، ومهد فنه البديع، فهي تمتلك رصيداً تراثياً نادراً، عميقاً وباذخاً، ليس وليد اللحظة أو ضربة حظ عابرة، ولم يتم استيراده من الخارج على أكتاف الغرباء، بل هو نتاج أصيل لتاريخ طويل وحضارة عريقة، فهي بحق بوصلة الخليج، وعندما أصابها بعض الفتور والركود في فترة ما، تراجع معها أهل الخليج، وانجرفوا نحو الظلام.
إنها ميزان ورقي الحراك الحضاري في المنطقة، فعندما تستعيد الكويت عافيتها وتتألق، فإنها تبهر الأنظار، وإذا ازدهرت وتقدمت، نهضت وتسامت ثقافة وفنون الخليج بأكمله.
لقد كانت مجلة العربي الغراء، هي المصدر الثقافي والمعين الذي ارتوى منه مثقفو الخليج طوال فترة الخمسينات وحتى مطلع الألفية الجديدة، وكان الفنان القدير زكي طليمات يرسخ دعائم مسرحه العظيم، الذي نافس بقوة المسارح العريقة في القاهرة وبيروت وبغداد ودمشق، وعلى يديه تخرج كوكبة من عمالقة الفن الكويتي، أمثال حسين عبد الرضا وسعد الفرج، وإبراهيم الصلال، وخالد النفيسي، وسعاد عبد الله، وحياة الفهد.
كان الاحتفال بالعيد الوطني لدولة الكويت، بمثابة عيد آخر يزهو به الكويتيون، فالمسارح الشهيرة، والرقصات الفلكلورية، والأهازيج المبهجة والأغاني الوطنية الحماسية، كانت تبدو كلوحات فنية بديعة لا يتقن صنعها إلا فنانون مبدعون أمثال سناء الخراز، وشادي الخليج.
لا تنسوا أبداً ملحني الكويت المبدعين، وشعرائها الذين كتبوا أروع الأغاني، وصحافتها الرائدة، ودور النشر والمطابع العريقة، ومنتخبها الوطني الأزرق، الذي كان مصدر الفرح والبهجة في عالم كرة القدم، ولا تفوتوا فرصة الاستماع إلى فنانيها ومطربيها المميزين، وزيارة نواديها وديوانياتها العامرة، فهي الحاضنات الأصيلة للتمدن والتحضر الذي نتوق إليه.
لطالما كانت الكويت الرئة التي تتنفس منها نجد وهواؤها العليل، فإذا اشتدت قسوة الحياة وتكاثر الأعداء، كان ولا يزال قصر الحكم وأهله الكرام، هم الإخوة والأهل والأرحام، ومنها انطلق الفرسان لاستعادة الأمجاد، والسيوف في يد الإمام عبد العزيز تعيد ملكاً تليداً.
هي البوابة التي يعبر منها المهاجرون إلى أرض العراق، وأول نسماتها العطرة، حين تعبر قوافل النجديين باحثين عن نخيل العراق وماء الفرات، فكانت مدينة الزبير الفيحاء، أولى الحواضر النجدية في العراق، وآخر المعالم النجدية الباقية، تأخذ من الكويت لونها الأصيل وزادها المستطاب.